عادل الهرش

عادل الهرش

تابعنى على

مسؤولي اليمن: من هامات الدولة إلى قطيع مهرّجين في مواقع التواصل

Thursday 18 December 2025 الساعة 08:23 pm

كانوا يومًا ما هاماتٍ سامقة في كنف الدولة؛ يتصدّرون الصفوف، وتُفتح لهم الأبواب، وتُوزن كلماتهم بميزان الوطن. قُدِّموا للناس على أنهم رجال دولة، وحماة مؤسسات، وأمناء على ثقة شعب. غير أن الزمن كعادته لا يُبقي الأقنعة طويلاً، ولا يرحم من عاش على الهيبة دون أن يصنعها من جوهره.

اليوم، وبعد أن تهاوت الدولة اليمنية وتكسّرت أركانها، اتّضح أن كثيرًا ممن تبوّأوا أرفع المناصب لم يكونوا سوى “حكواتيين” بلا مشروع، ولا مسؤولية، ولا شرف موقف. فحينما أطلّوا على الناس عبر منصّات “البودكاست”، تدفّق الزيف من أفواههم، وتصدّرت السفالة خطابهم، وتسيّد الجهل رواياتهم. لم يعودوا يتحدّثون بمنطق رجال الدولة، بل كباعة أوهام يتاجرون بالحكايات لتغطية فشلهم الذريع.

والأدهى من ذلك، أنهم يُسقطون فشلهم الشخصي وانهياراتهم السياسية على الوطن، باحثين عن “شماعة” يعلّقون عليها خطاياهم، فلا يجدون أسهل من الطعن في الشهيد الزعيم علي عبدالله صالح —سواء في أيام حكمه أو بعد تسليمه للسلطة— وكأن التاريخ يُعاد كتابته في مقهى، أو كأن الدول تُدار بمنشورات ومقاطع مجتزأة. لم يملك هؤلاء الرعاع شجاعة الاعتراف بأخطائهم، فاختاروا الاغتيال المعنوي طريقاً وطوق نجاةٍ رخيصاً.

لم يكن هذا السقوط وليد اللحظة، بل هو نتاج سنوات من التملّق والنفاق السياسي. فهؤلاء الذين نراهم اليوم يثرثرون بلا خجل، هم أنفسهم من أتقنوا بالأمس فن صناعة الولاءات الزائفة؛ كانوا أبطالاً في التقاط الصور مع القادة، وأساتذة في صياغة خطابات المديح الرنانة، لكنهم غابوا تماماً عن معارك البناء والتنمية الحقيقية.

حين كانت الدولة بحاجة إلى عقول تبتكر وسواعد تبني، انشغلوا بتعزيز نفوذهم الشخصي وتأمين مستقبل عائلاتهم. لقد كانت مناصبهم غنيمة ولم تكن يوماً مسؤولية؛ لذا لم يشعروا بوخز الضمير حين سقطت الدولة، بل سارعوا للبحث عن غنيمة جديدة، ولو على الأنقاض.

وما يفضحهم أكثر، هو انعدام المروءة والاحترام في خطابهم؛ فلا يقدّرون تضحيات الأبطال المرابطين في جبهات القتال ذوداً عن كرامة اليمن، ولا يخجلون من ذلك اليمني البسيط الذي تقطّعت به السبل وذاق مرارة الهوان، ومع ذلك لا يزال ثابتاً على مبادئه، متشبثاً بأرضه وهويته.

يتجاوز الأمر قلة الاحترام إلى الاستخفاف الممنهج بذاكرة الشعب؛ فيدّعون في بودكاستاتهم كشف أسرار وخفايا، متناسين أن الشعب اليمني أذكى من أن تنطلي عليه حكايات تُروى بعد فوات الأوان. فأين كانت هذه الأسرار حين كنتم في قلب السلطة؟ ولماذا صمتّم حين كان لكلامكم وزن، ونطقتم الآن حين أصبح مجرد ضجيج؟

قارنوا —إن ملكتم الجرأة— بين هذا الانحدار وما عليه الحال في دول أخرى؛ ففي الدول التي تحترم نفسها، يظل المسؤول بعد تقاعده محافظاً على وقاره، أميناً على أسرار الدولة، مترفعاً عن الإساءة لرموزه، لأن الخلاف هناك يُدار بعقل الدولة لا بغريزة الانتقام.

أما في واقعنا، فقد رأينا مسؤولين يمنيون التهموا خيرات الوطن ثم تركوا المواطن يواجه مصيره وهربوا للخارج، يمثلون أدوار البطولة في مسرحية هزلية. ومن بقي منهم في الداخل، تحوّل بعضهم إلى سادن يخدم الانقلاب، فأي خيانة أفدح من التحول من رجل دولة إلى خادمٍ لمشروع دمّرها؟

إن أخطر ما يفعله هؤلاء هو تسميم وعي الأجيال الشابة التي لم تعاصر الدولة في أوج هيبتها، عبر تقديم تاريخ مشوّه يجعل من الخيانة وجهة نظر، ومن الهروب حكمة. إنهم لا يغتالون الماضي فحسب، بل يزرعون بذور اليأس في المستقبل لقتل أي أمل في قيام دولة قوية تحاسبهم.

إنها ليست معركة آراء، بل محاكمة سلوك وضمير. فرجل الدولة يُقاس بما يصونه لا بما يهدمه، وبما يحفظه لا بما يبتذله. ومن اختار التهريج بدل الوقار، والشتيمة بدل الحكمة، فقد حكم على نفسه بالخروج من التاريخ؛ فالتاريخ لا يتّسع للمهرّجين، ولا يخلّد إلا من حملوا الدولة في صدورهم، ودافعوا عن كرامة شعبهم بالفعل قبل القول، في أحلك الظروف وأصعب الأوقات.