محمد عبدالرحمن

محمد عبدالرحمن

من البنادق إلى صناديق الاقتراع: الصومال يعكس مرآة الفشل اليمني

Thursday 25 December 2025 الساعة 06:32 pm

تشهد العاصمة الصومالية مقديشو، اليوم الخميس، انتخابات بلدية تُعد الأولى من نوعها منذ نحو ستين عامًا، في خطوة تعكس محاولة جادة لإعادة إحياء المسار الديمقراطي في البلاد. ويتنافس أكثر من 1600 مرشح على 390 مقعدًا في المجالس المحلية، على أن يتولى الأعضاء المنتخبون لاحقًا اختيار رئيس البلدية، في إطار تمهيد الطريق أمام أول انتخابات وطنية مباشرة منذ عقود. وتستحضر هذه الانتخابات آخر تجربة اقتراع مباشر شهدتها الصومال عام 1969، قبل الانقلاب العسكري وما أعقبه من سنوات طويلة من الصراع وعدم الاستقرار.

لم يعد ممكناً الهروب من الحقيقة القاسية أن الصومال التي ضلت لعقود عنواناً للفوضى والدولة المنهارة، تقف اليوم – ولو بخطوات متعثرة- على عتبة السياسة، بينما يقبع اليمن الذي امتلك دستوراً وانتخابات وتجربة تعددية مبكرة، في قاع حرب عبثية لا نهاية لها. وليست هذه مفارقة تاريخية، بل نتيجة مباشرة لاختيارات سياسية خاطئة، ونخب فاشلة وسلاح أعطي قداسة أعلى من الدولة.

في لحظة فارقة، اختارت الصومال أن تُخضع البنادق لمنطق التوافق، لا أن تُسلم السياسة لسطوة الرصاص، فقد فهمت -متأخرة ولكن بوضوح- أن الحرب الأهلية لا تُنتج غالباً، وأن الدولة لا تُبنى بالقوة، وأن الشرعية لا تُستمد من فوهة بندقية. في المقابل، قرر اليمن أن يفعل العكس تماماً، فقد سلّم الدولة للسلاح، وشرعن العنف، وجرّم السياسة، حتى تحولت الانتخابات إلى ذكرى باهتة، والديمقراطية إلى ترف مستحيل.

لا أحد يدّعي أن التجربة الصومالية نموذج مثالي، النظام الانتخابي معقد، والبنية العشائرية ما زالت حاضرة، والدولة هشة، والتدخلات الخارجية قائمة، لكن الفارق الجوهري أن الصومال وصلت إل قناعة أساسية هي أن لا بديل عن السياسة مهما كانت ناقصة. اختارت إدارة الصراع بدل الانتحار به، وبناء توافقات مؤلمة بدل حروب مفتوحة.

الانتخابات الصومالية الحالية احتفالاً ديمقراطياً بقدر ما هي إعلان عقل سياسي جديد من حيث تقليص دور السلاح، تحجيم الميليشيات، والاعتراف بأن الدولة أفضل من اللادولة، هذا الوعي لم يأتِ فجأة، بل بعد أن دفعت الصومال أثماناً باهظة من الدم والخراب، فتعلمت الدرس الذي ما زال اليمن يرفض تعلمه.

في المقابل تبدو الحالة اليمنية أكثر مأساوية لأنها لم تبدأ من الصفر، اليمن عرف الانتخابات، والتداول السلمي للسلطة، والتعددية الحزبية، والصحافة، والمجتمع المدني، لكنه أهدر كل ذلك عندما فشلت نخبة في حماية المسار الديمقراطي، وسمحت للميلشيات الحوثية أن تتهدم الدولة وأركانها ومسارات الوصول السلمي إلى السلطة. 

الفارق الجوهري بين الصومال واليمن ليس في الموارد ولا في التاريخ، بل في موقع السلاح من السياسة، في الصومال يجري -ببطء وصعوبة- إخضاع السلاح لمسار سياسي، أما في اليمن فقد جرى إخضاع السياسة للسلاح، هناك يُنظر إلى البندقية كعبء يجب التخلص منه، وهنا تُعامل كشرعية بديلة عن الدولة، كما هو نهج الحوثية الإرهابية.

التجربة الصومالية اليوم ليست درساً للصومال بقدر ما هي مرآة لليمن، مرآة تكشف حجم الفشل، لا لأن الصومال أفضل، بل لأن اليمن اختار الأسوأ، دولة خرجت من الحرب إلى السياسة، وأخرى خرجت من السياسة إلى الحرب، دولة تعلمت من كوارثها، وأخرى تصر على إعادة إنتاجها.

ما تقوله الصومال اليوم، دون خطابات هو أن السياسة القبيحة أرحم من الحرب، وأن الانتخابات الناقصة أفضل من الرصاص الكامل، وما يقوله اليمن بصمته ودمه، هو أن التخلي عن الديمقراطية لا يؤدي إلى الاستقرار بل إلى التفكك.