صنعاء على تخوم الغيب، كأنها تنتظر زمناً بلا مواعيد، وحدثاً بلا أفعال. تمضي على إيقاع البيانات الصاروخية وزوامل جند الله المنضوين تحت لواء "نيروى قدس"، الذراع العابرة للحدود للحرس الثوري، حيث يغدو الخارج امتداداً للداخل، وتذوب الحدود في متاهة الأيديولوجيا على نحو يحيل جغرافيا المنطقة إلى صفائح متحركة.
صنعاء بلا روح، تحركها خطابات "السيد" وقد تحوّلت إلى نصوص شبه لاهوتية لا تُكتب بحروف اللغة؛ من لم يُفتتن بها لا مكان له.
لم تشهد صنعاء صراعاً وجودياً بين الجماعة الحاكمة والمجتمع المدني كما كان متوقّعاً؛ بل استقرّ الأمر على سيّد واحد وهياكل اجتماعية جديدة.
الجمهوريون وحراس الربيع العربي، والإعلاميون وأبطال الميديا… جميعهم لاذوا بالفرار والاختباء في سراديب الزمن، ينافسون المهدي المنتظر في رحلة الغياب والعودة.
صنعاء تراقب بيروت، ترصد تداعيات سلاح حزب الله، فهو مرآة مستقبلها، وتتهيأ لتفعيل زنادها الداخلي بحثاً عن جيش عبيد الله بن زياد؛ فالعقيدة لا تفرّق بين كربلاء ومأرب وعدن: كلها ساحات حرب تجمّدت التواريخ في دمائها... كما أن الشرق جسد واحد، إذا انفجرت مدينة تداعت لها مدن بعيدة بالبارود والنار.
بيروت، بدورها، استثمرت الزلزال الإقليمي لترسم حدودها الوطنية داخلياً، وتحاول ألّا تقع في فخّ اجترار الماضي أو تغرق في ذاكرة الدولة الضعيفة المحايدة التي راقبت شعبها يوماً ما وهو يتقطّع بسكاكين الطوائف. إنها رحلة البحث عن هوية وطنية مستقلّة، خارج الوصاية والمحاور والملفات النووية، والتمرّد على الهيمنة الخارجية، تلك التي تتدثّر براية القدس لفرض نفوذها وسلطانها. الكلّ يسعى لهيكلة الشرق بعقل إمبراطوري، عدا أبناء العروبة الغارقين في نفور تاريخي من الحقائق.
صنعاء استسلمت للسلالة، فيما بيروت تقاوم أشباح الطوائف، كأنهما، رغم الفارق الحضاري الكبير، تسكنان فضاءً واحداً: فضاء “اللازمن”، حيث تتماهى الأحداث وتفقد سياقها، فلا يبقى سوى طيف الجغرافيا يطارده الخراب بعناوين منقطعة الصلة بالحاضر.
كأن هذا الشرق قد انفلت من محدّدات العقل ليعيش خارج منطق التاريخ. لم يستوعب بعد أنّ "الطائفية"، بأبعادها السياسية، لا تحمي أرضاً ولا تحرر قدساً، ولا تحمل مشروع دولة أو حضارة؛ بل حالة تعبوية لإعادة إنتاج الماضي بكل صراعاته تحت شعارات مختلفة و(تقيَّات) لا حدود لها. فتن لا تنتهي وحروب لا تخمد، أداة تدمير ذاتي يشجعها الغرب بوسائله المتعددة لاستنزاف دول المنطقة، فيما توظفها دول إقليمية في صراعاتها بحثاً عن توسيع نفوذها. والنتيجة واحدة: تفكيك المجتمعات، إسقاط الدول، وإحلال الفوضى.
من صفحة الكاتب على الفيسبوك