المتابع للشأن اليمني يدرك حجم التعقيدات التي بلغت ذروتها في وقت كان بالإمكان تفادي الوصول إلى هذا المنحنى الخطير، خاصة مع تصاعد أعمال العنف في تعز وغيرها، والتي اتسمت بوحشية مفرطة. ما جرى، بما في ذلك ما تعرضت له شخصيات مدنية ومسؤولة، كان دليلًا على أن الأوضاع انزلقت إلى مرحلة بالغة الخطورة.
في نوفمبر 2016م، ترأس الرئيس الراحل علي عبدالله صالح اجتماعًا للجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام في صنعاء، وهو الاجتماع الأول بعد إعلان الحزب دخوله في تحالف "شكلي" مع الحوثيين. صالح برّر هذا التحالف بأنه ضرورة في ظل فرار "الشرعية" إلى الخارج وتركها اليمن في فراغ دستوري، مؤكدًا أن "المجلس السياسي الأعلى" هو السلطة العليا في البلاد، وأن المؤتمر لا يعترف بعبدالملك الحوثي كزعيم أوحد.
في ذلك الخطاب، بعث صالح برسائل إيجابية إلى المملكة العربية السعودية، التي كان يكرر وصفها بـ"الشقيقة الكبرى"، مؤكدًا عمق العلاقة بين البلدين، والإسهام الكبير لمليون ونصف المليون يمني في نهضة المملكة، ومشيرًا إلى اتفاقيات الحدود التي تنظم العلاقة بين الجانبين.
حمل خطاب صالح رسائل مباشرة للرياض "أوقفوا القصف ونحن نتكفل بحل الإشكالية". كان يمتلك حينها القدرة على قلب المعادلة، وأدرك الحوثيون سريعًا أن "صالح" لا يسعى إلى الشراكة الحقيقية بقدر ما كان يعيد ترتيب أوراقه تمهيدًا للإطاحة بهم. لذلك، لم تمضِ سوى أشهر قليلة حتى بدأت الخلافات تطفو على السطح، متحوّلةً إلى مواجهات مسلحة عنيفة عجّلت بانتفاضة 2 ديسمبر 2017م.
ذلك الخطاب وما تلاه من مواقف كان يمثل محاولة واضحة من "صالح" لدفع السعودية إلى إعادة النظر في مقاربتها للأزمة اليمنية، بعيدًا عن هيمنة "الإخوان المسلمين"، الذين كانت مشكلتهم الحقيقية مع "صالح" لا مع الحوثيين الموالين لإيران. معركة الـ2 من ديسمبر أثبتت أن الرجل كان يسعى بالفعل للإطاحة بالحوثيين، وقد وفرت تلك اللحظة فرصة تاريخية للتخلص منهم وربما إنهاء الحرب مبكرًا والشروع في إعادة إعمار ما دمرته، لكن الفرصة لم تُلتقط.
لقد استمعت حينها لخطاب صالح، وأعدت الاستماع إليه اليوم بعد سنوات، فأدركت أن الرجل كان يخطط بجدية لإسقاط الحوثيين، معتقدًا أن السعودية ستقف إلى جانبه.
بالفعل، أوصل رسائل علنية وأخرى سرية، تجسدت بزيارة قيادات مؤتمرية إلى الرياض مطلع 2017م. وعندما اندلعت مواجهات الـ2 من ديسمبر 2017م، وجّه الرئيس عبدربه منصور هادي وزير دفاعه في مأرب بالدفع بسبعة ألوية متمركزة في فرضة نهم لمساندة قوات المؤتمر الشعبي العام، لكنها لم تتحرك. لاحقًا، في 2020م، أصدر وزير الدفاع محمد المقدشي أوامر بالانسحاب من نهم، واصفًا الخطوة بأنها "انسحاب تكتيكي"، فيما اعتبرها الخبير السعودي إبراهيم آل مرعي أقرب إلى انسحابات هدفها ابتزاز التحالف العربي، كتلك التي حدثت في الجوف.
اليوم، وبعد مرور كل هذه الأحداث، ومع انشغال الجهود الإقليمية والدولية بإيجاد صيغة لمعالجة أزمة مجلس القيادة الرئاسي، يصبح من المشروع التساؤل لماذا لم تلتقط السعودية خطاب نوفمبر 2016م؟
اليمنيون حينها كانوا يتطلعون إلى إنهاء حقبة الحرب وبدء مرحلة جديدة، لكن الحسابات الإقليمية أبقت الحوثيين لاعبًا رئيسيًا، وذهبت الرياض إلى خيارات أكثر صعوبة. صحيح أن التهدئة بين السعودية والحوثيين بدأت عمليًا قبل اتفاق بكين في مارس 2023م بين الرياض وطهران، وجاء الاتفاق ليعززها، إلا أن هذه الهدنة –رغم أهميتها– لم تُنهِ جوهر الأزمة اليمنية. فالهدنة قد تريح الجبهات لكنها لا تحل معضلة التعايش مع جماعة عقائدية فرضت هيمنتها بالقوة.
البدائل ما زالت مطروحة. والعودة إلى خطابات صالح وفهم رسائله قد تفتح طريقًا لإعادة صياغة الحل. اليمنيون، بمن فيهم القبائل الزيدية التي عانت الويلات من تسلط الحوثيين، لا يمكن أن يتعايشوا معهم.
حزب المؤتمر الشعبي العام، جناح صالح، بات اليوم في وضع يؤهله لمرحلة ما بعد الحوثيين. فقيادته من الهضبة الزيدية وتستند إلى قاعدة اجتماعية عريضة في المناطق التي يعتقد الحوثيون أنها حاضنة طبيعية لهم، بينما هي في الواقع حاضنة ناقمة عليهم. هذه القبائل يمكن أن تستند إلى المؤتمر لمواجهة الجماعة، خصوصًا مع إدراكها أن الحوثيين أدخلوا البلاد في صراع عبثي مدمر.
إنقاذ اليمن يبدأ بمعالجة سؤال "البديل". والبديل موجود بالفعل: حزب المؤتمر الشعبي العام والمقاومة الوطنية التي أظهرت حضورًا لافتًا في التصدي لشحنات الأسلحة الحوثية في البحر. وهو جهد عسكري يعكس أن أي معركة قادمة ستكون بحسابات مختلفة.
في المحصلة، لن تستقر صنعاء إلا عبر تحالفات وطنية حقيقية، بعيدًا عن هيمنة أحزاب الإسلام السياسي، وبعيدًا عن استراتيجيات الإبقاء على الحوثيين كورقة ضغط إقليمية.
من صفحة الكاتب على منصة إكس