تعز تعيش سجل أسود.. حماية القتلة وشرعنة الإرهاب

السياسية - منذ ساعتان و 16 دقيقة
تعز، نيوزيمن، خاص:

تعيش مدينة تعز واحدة من أكثر مراحلها قتامة واضطرابًا في ظل قبضة عسكرية وأمنية خانقة يفرضها حزب الإصلاح الإخواني، الذي يحكم المدينة عبر محور تعز العسكري والأجهزة الأمنية الموالية له. هذه القبضة لم تُترجم إلى فرض الاستقرار أو حماية المدنيين، بل تحولت – بحسب مراقبين وحقوقيين – إلى أداة لتكريس الفوضى وشرعنة الإفلات من العقاب. 

ويظهر ذلك جليًا من خلال النهج المستمر في تمييع قضايا الاغتيالات وأعمال القتل الوحشية، حيث تتكرر سيناريوهات "التسليم الصوري" لمتهمين ثانويين أو شخصيات لا علاقة مباشرة لها بالجرائم، بينما يتم تحييد أو حماية الجناة الرئيسيين الذين غالبًا ما تربطهم علاقات وثيقة بمحور تعز العسكري أو قيادات بارزة في الحزب.

>> والد أفتهان المشهري: لن أتنازل عن حق أبنتي حتى يُحاسَب القتلة ومن وفر لهم الحماية

ولا تقتصر الممارسات على عمليات التسليم المضللة، بل تمتد إلى حملات أمنية شكلية تستعرض القوات في الشوارع وتبث رسائل إعلامية موجهة، لكنها تفتقر إلى أي نتائج عملية في كشف الحقائق أو تحقيق العدالة للضحايا. هذه الحملات – كما يرى أبناء المدينة – ليست سوى أدوات لإخماد الغضب الشعبي مؤقتًا وامتصاص الضغط المتزايد، قبل أن تعود الأمور إلى نقطة الصفر، تاركةً الجريمة بلا حساب والجناة أحرارًا في ارتكاب المزيد.

حادثة اغتيال مديرة صندوق النظافة والتحسين في تعز افتهان المشهري تمثل نموذجًا صارخًا لهذا النهج؛ إذ لم تكشف فقط عن هشاشة المنظومة الأمنية وعجزها، بل عرّت حجم التواطؤ مع المجرمين ومنفذي الهجوم الذين ثبت انتماؤهم إلى إحدى الأولويات العسكرية التابعة لمحور تعز الموالي للإصلاح. هذه الحادثة – بما تحمله من دلالات إنسانية وسياسية – هزّت وجدان المدينة وأعادت إلى السطح سؤالًا مؤلمًا: من يحمي تعز؟ هل هي المؤسسات الأمنية كما يُفترض، أم أن هذه المؤسسات باتت مظلة تحتمي بها العصابات والمليشيات الحزبية التي تُمعن في إذلال الناس وسفك دمائهم؟

عجز مزمن

تعاطي سلطات تعز مع جريمة اغتيال افتهان المشهري لم يخرج عن إطار العجز المزمن الذي يطبع تعاملها مع الجرائم السابقة، إذ بدا وكأنه نسخة مكررة من مشاهد مألوفة أثارت مرارًا سخط الشارع وخيبة أمله. فبدلًا من إجراءات رادعة تقود إلى محاسبة الجناة وإنصاف الضحايا، أعادت السلطات إنتاج السيناريو ذاته القائم على الاستعراض الأمني الفارغ عبر نشر أطقم في الشوارع، وتضخيم أخبار تسليم بعض المطلوبين أنفسهم إلى الشرطة العسكرية بصورة شكلية لا تتجاوز حدود "الاستراحة المؤقتة"، في انتظار أن تهدأ موجة الغضب الشعبي وتطوي المدينة صفحة جديدة من الدماء دون تحقيق العدالة.

الصحفي سامي نعمان يصف هذا المشهد بدقة حين يؤكد أن "التعامل مع جريمة اغتيال افتهان جاء مخزيًا وهزيلًا، يعكس عجزًا أخلاقيًا ومؤسسيًا في آن واحد". ويضيف أن ما يجعل الجريمة أكثر استفزازًا أنها استهدفت لأول مرة مسؤولة امرأة بهذا الشكل الوحشي، في سابقة خطيرة إذا لم يُتصدى لها قد تفتح الباب أمام تحوّل استهداف النساء القياديات والناشطات إلى أمر معتاد، بما يشكل تهديدًا مباشرًا للنسيج الاجتماعي ولدور المرأة في الحياة العامة والسياسية داخل تعز.

>> تعز تدفع الثمن.. القاضي: المدينة التي دافعت عن نفسها تُعاقَب بالاغتيالات والفوضى

هذا النهج – بحسب مراقبين – لا يضر فقط بصورة الدولة وسلطاتها، بل يرسخ انطباعًا قاتمًا لدى المواطنين بأن المؤسسات الأمنية والعسكرية لم تعد سوى غطاء لعصابات حزبية تمارس نفوذها بلا رادع. وهو ما عمّق حالة انعدام الثقة بين الشارع والسلطة، وكرس شعورًا عامًا بأن دماء الأبرياء في تعز أضحت مجرد أوراق مساومة في صفقات سياسية أو حزبية ضيقة.

ويؤكد نعمان أن تعز "باتت بحاجة إلى دولة حقيقية تحمي مواطنيها من تغوّل المليشيات والعصابات، لا إلى سلطة تصدر بيانات مكرورة ووعود جوفاء تتبخر عند أول اختبار"، في إشارة إلى التصريحات الرسمية التي لا تتجاوز التنديد والشعارات المكرورة مثل "لن يفلتوا من العقاب" أو "دماء الشهداء لن تذهب هدرًا"، بينما الواقع يثبت العكس تمامًا، حيث تكررت مئات الجرائم السابقة دون أن ينال القتلة جزاءهم.

تحركات مخزية

في موازاة الغضب الشعبي العارم الذي عمّ شوارع تعز عقب اغتيال افتهان المشهري، سارعت سلطات المدينة إلى إطلاق حملة أمنية وُصفت على نطاق واسع بأنها مجرد استعراض إعلامي لا أكثر، إذ انتشرت الأطقم العسكرية في الشوارع والأحياء الداخلية، فيما تجنبت الوصول إلى المواقع الحقيقية التي يختبئ فيها القتلة المعروفون لدى الجميع. هذا التناقض فجّر موجة جديدة من السخط الشعبي، حيث اعتبر كثيرون أن السلطة الأمنية تتقن فن إدارة الغضب أكثر من ملاحقة المجرمين.

الإعلامي أدونيس الدخيني علّق بحدة على هذه الحملات، قائلاً: "حملة منصور الأكحلي منتشرة في كل أحياء تعز إلا الروضة وكلابه. يؤمنون المؤمن، في إشارة إلى سياسة القوات الإخوانية بالتراجع من الجبهات ضد الحوثيين لتأمين المناطق المحررة. انفجر غضب الناس وسيطر عليه إصلاح خالد فاضل ومنصور الأكحلي. تعز تعيش المأساة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وليس أمامها سوى الكفاح من أجل اجتثاث هؤلاء السقط".

ما قاله الدخيني يعكس حقيقة مفادها أن الحملات الأمنية في تعز لا تُدار بمنطق العدالة، بل تُستخدم كأداة سياسية وأمنية لحماية النفوذ وترويض الشارع. فالانتشار الأمني في الأحياء الآمنة يبعث برسالة مضللة بأن السلطة "حاضرة وقوية"، بينما الواقع يكشف أن القتلة ما زالوا طلقاء، وأن مناطق نفوذهم محمية باتفاقات ضمنية أو بغطاء حزبي مباشر.

النتيجة أن تعز تبدو – كما أضاف الدخيني – مدينة متروكة لمصيرها، حيث لم يجد الضحايا، وفي مقدمتهم افتهان، أي مظلة حقيقية للحماية، فواجهت مصيرها وحيدة في ظل غياب المحافظ، والأجهزة الأمنية، والقيادات النافذة. هذه الحادثة جسدت بوضوح مأساة مدينة تقاتل منذ أكثر من عقد، لكنها لم تحصد سوى الخيبات، إذ تُستنزف دماء أبنائها وبناتها فيما تتحول المؤسسات الأمنية إلى حارس لسلطة حزبية بدلًا من أن تكون أداة لحماية المجتمع وإنفاذ القانون.

سجل أسود

يتكشف يومًا بعد آخر السجل الأسود لمحور تعز العسكري والأجهزة الأمنية التابعة له، حيث يتكرر سيناريو "التسليم الصوري" للجناة بشكل ممنهج، في عملية أشبه بالمسرحية الأمنية التي تُدار لإقناع الرأي العام بوجود إنجازات، بينما في الواقع يتم تهريب القتلة الحقيقيين أو توفير الحماية لهم خلف الكواليس. هذا النمط لم يعد مجرد استثناء أو خلل عابر، بل تحوّل إلى سياسة ممنهجة تضرب في عمق العدالة وتحوّل تعز إلى ساحة للفوضى المستمرة.

>> اغتيال أفتهان المشهري.. فسحة في قلب فساد الإخوان بتعز

في قضية اغتيال افتهان المشهري، قُدم جسار المخلافي كواجهة لتسليم شكلي، بينما ظل ابنه لؤي المخلافي – المتهم الرئيسي – طليقًا مع آخرين، في صورة صادمة من التلاعب والاستهانة بدماء الضحية وغضب الشارع. لكن هذه ليست سوى حلقة من سلسلة طويلة، ففي عام 2023 جريمة سوق المجاهد، حيث تم تسليم جسار بدلًا عن محمد صادق، لينتهي الأمر بدفع دية عبر تبرعات ورواتب جنود، فيما خرج القاتل الحقيقي ليواصل ارتكاب جرائم جديدة. وفي قضية مقتل مرافقي محافظ تعز، جرى تسليم أشخاص بدلاء، بينما هُرّب الجناة الأساسيون في ظروف غامضة، ما أثبت أن السلطة العسكرية قادرة على صناعة "كبش فداء" بدلًا من مواجهة المتورطين الحقيقيين.

كما جرى إطلاق سراح المتهم الرئيسي في حادثة اغتيال موفق الشميري، ليعود لاحقًا قائدًا لإحدى الكتائب العسكرية التي تورطت بدورها في جرائم جديدة، وهو ما عكس تحول المجرمين إلى أدوات بيد السلطة العسكرية بدلًا من أن يكونوا خاضعين للمحاسبة. وفي قضية الحاج سيف الشرعبي، رغم التدخل المباشر من قيادة الدولة ممثلة برئيس مجلس القيادة رشاد العليمي، انتهت القضية بتمييع كامل وضغوط على الشهود، في تكرار لنهج حماية الجناة على حساب العدالة. وفي جريمة الطفل حسين فؤاد، ليلة 27 رمضان، تم تسليم والد الجاني بدلاً عنه، بينما ظل القاتل نفسه تحت حماية عسكرية صريحة، في مثال فجّ على الاستهانة بأرواح الأطفال.

هذه القضايا ليست سوى جزء من سجل طويل، تضمن أيضًا استهداف أكاديميين وصحفيين وناشطين، مثل محاولة اغتيال رئيس جامعة تعز الدكتور محمد الشعيبي، وحوادث استهداف متكررة للصحفيين والناشطين، في ظل غياب أي تحقيق جاد أو محاكمة عادلة.

وفق شهادات سياسيين وحقوقيين، فإن هذه الوقائع تكشف بوضوح أن المؤسسات الأمنية والعسكرية في تعز تحولت إلى مظلة تحمي المجرمين بدلًا من أن تكون أداة لإنفاذ القانون. فالمحور العسكري يستخدم سلطته لإعادة تدوير القتلة عبر صفقات وصفقات مضادة، حيث يتم شراء الدماء بالدية أو إدماج القتلة في وحدات عسكرية، بينما تُدفن القضايا تباعًا تحت ضغط الزمن وغياب الشفافية.

>> اغتيال مديرة صندوق النظافة في تعز.. فاجعة تفضح الفوضى الأمنية ورعاية الإرهاب

النتيجة أن المدينة باتت غارقة في فوضى دموية ممنهجة، حيث أصبحت حياة المواطنين مرهونة بتوازنات حزبية ومصالح قيادات نافذة، فيما يظل الإفلات من العقاب هو القاعدة الثابتة، والعدالة مجرد استثناء مؤجل.

لملمة الفضيحة

أمام الغضب الشعبي المتصاعد عقب جريمة اغتيال افتهان المشهري، لم تجد قيادات حزب الإصلاح وسلطات محور تعز سوى اللجوء إلى محاولات بائسة للملمة الفضيحة، عبر تكرار سيناريوهات مكشوفة من إطلاق تبريرات وخلق اتهامات مضادة وتصدير الأزمة نحو "شماعات" جاهزة، بدلًا من مواجهة الجريمة بجِدّية أو تقديم الجناة الحقيقيين للعدالة. هذه السياسة القائمة على التضليل لم تعد تنطلي على الشارع، بل زادت من اتساع الفجوة بين المواطنين والسلطات المسيطرة.

المحلل السياسي كامل الخوداني انتقد هذه الممارسات بشدة، مؤكدًا أن "محاولة ترقيع الفضيحة بعدما انتثرت أفضل من البحث عن شماعة تعلقون عليها أخطاءكم". وأضاف أن الناس في تعز لم يعودوا سُذّجًا كما يتوهم محور الإصلاح، قائلاً: "الناس ليست حمقى وتعز ليست مدينة جهل، صغيرها قبل كبيرها يعرف علتها وأيادي العبث داخلها". وبحسب الخوداني، فإن الشارع تجاوز جميع القوى السياسية والعسكرية ولم يعد يقبل أن يُقاد من الخارج أو يُخدع ببيانات جوفاء أو حملات إعلامية.

هذه التصريحات تعكس بوضوح المأزق الوجودي الذي يعيشه الإصلاح في تعز، حيث فقد الحزب جزءًا كبيرًا من حاضنته الشعبية، بعد أن تحولت وعوده إلى سراب، وانكشف دوره في حماية القتلة وشرعنة الفوضى الأمنية. كما أن محاولات حرف الأنظار عن الجريمة أو الالتفاف على الغضب الجماهيري لم تعد تجدي، بل صارت تزيد من تعقيد الموقف وتضاعف من خسارة الحزب لرافعة الدعم الشعبي.

ويرى مراقبون أن ما قاله الخوداني يُعبّر عن لحظة فارقة: فالمواطنون لم يعودوا يطالبون بوعود أو بيانات إنشائية، بل بقرارات جريئة تُعيد للمدينة هيبتها، وتقطع يد العبث المتغول داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية. إلا أن هذه القرارات تغيب بفعل هيمنة الإصلاح على مفاصل السلطة، ما يجعل الأزمة تتفاقم، ويجعل تعز تبدو وكأنها مدينة متروكة لسلطة العصابات لا لسلطة الدولة.

في ضوء ذلك، تبدو محاولات "لملمة الفضيحة" أشبه بعملية ترقيع مؤقتة لثوب ممزق، لا تلبث أن تكشف عجز الحزب عن السيطرة على الشارع أو استعادة ثقة الناس، الذين باتوا يحمّلون الإصلاح مسؤولية مباشرة عن استمرار جرائم الاغتيال والفوضى الأمنية، ويرون أن بقاء هذه المنظومة على حالها يعني أن المأساة مرشحة للتكرار دون نهاية.