بين رمزية الزيارة وثقل الملفات.. وزير الدفاع يواجه تراكمات محور تعز واحتقان الشارع
السياسية - Monday 20 October 2025 الساعة 08:34 pm
من أمام خيام الاعتصام التي نصبها ضحايا الاغتيالات والانتهاكات للمطالبة بالعدالة والقصاص من "خلية الاغتيالات الإخوانية"، وصل وزير الدفاع اليمني الفريق الركن محسن الداعري شارع جمال الرئيس في أول زيارة له، حيث أقيم عرضٌ عسكري رمزي لقوات محور تعز وقوات أمنية أخرى.
زيارة حملت في ظاهرها طابعًا ميدانيًا لتفقّد الجبهات وقوات الجيش في المحافظة ورفع معنويات المقاتلين، ولكن في باطنها فتحت ملفات شائكة تتعلق بتجاوزات وانتهاكات واسعة تمارسها قوات المحور الموالية لحزب الإصلاح الإخواني الذي كان من المفترض أن يكون حصن وسد منيع يقاتل ميليشيا الحوثي في الجبهات وخطوط التماس، لا أن أداة إرهابية تستخدم لزرع الخوف بين أبناء المدينة المحررة وممارسة أبشع الانتهاكات بحقهم.
من خلف اللافتات التي رفعها المعتصمون أمام خيامهم في شارع تعز، علت نظرات المواطنين المقهورين نحو موكب الوزير، متسائلين إن كانت زيارته ستفتح أبواب العدالة أمامهم أخيراً، أم أنها ستمر كسابقاتها دون مساءلة أو تغيير. فهؤلاء المواطنون – وهم ضحايا الاغتيالات والنهب والبسط على الممتلكات – يحمّلون قوات حزب الإصلاح مسؤولية ما يصفونه بـ"الجرائم العسكرية المقنّعة"، التي حولت المدينة إلى ساحة انتهاكات وفساد وهيمنة حزبية على حساب تضحيات أبناء تعز.
ملفات ثقيلة
وجد وزير الدفاع الفريق الركن محسن الداعري نفسه أمام مشهد معقد تتداخل فيه الملفات الأمنية والعسكرية مع المظالم الاجتماعية والحقوقية. فالمدينة التي كانت رمزاً للصمود في وجه الحوثيين، باتت اليوم تواجه اتهامات متصاعدة لقواتها الحكومية بارتكاب تجاوزات جسيمة ضد المواطنين الذين كان يفترض أن تحميهم.
زيارة الوزير، التي رُوّج لها رسمياً كجولة ميدانية لتفقد الجبهات ورفع معنويات المقاتلين، تحولت في نظر الشارع إلى فرصة نادرة لمراجعة الحسابات داخل محور تعز، ذلك المحور الذي يواجه منذ سنوات اتهامات بفساد مالي وإداري وتغوّل نفوذه على مفاصل السلطة المحلية. فبحسب مصادر حقوقية مطلعة، وضعت الزيارة على طاولة الوزير ملفات شائكة أبرزها استمرار عمليات النهب المنظم والجبايات غير القانونية المفروضة على المشتقات النفطية وضريبة القات وغيرها من الإيرادات المحلية، تحت ذرائع "الدعم العسكري" أو "نفقات التشغيل"، بينما تُستنزف الموارد العامة في جيوب قيادات وضباط نافذين دون رقابة أو مساءلة.
ولا تقف الاتهامات عند حدود الفساد المالي، بل تمتد إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان تشمل جرائم قتلٍ وتصفياتٍ ميدانيةٍ وتقطعاتٍ على الطرق، إضافة إلى عمليات بسط على أراضي ومنازل المواطنين في أحياء المدينة. وتشير تقارير محلية إلى تورط عناصر من ألوية محسوبة على حزب الإصلاح – منها اللواء 170 دفاع جوي واللواء 22 ميكا – في تشكيل عصابات مسلحة تمارس أعمال نهبٍ وسطوٍ تحت غطاء الانتماء العسكري، ما حول المدينة إلى ساحة نفوذٍ متنازعٍ عليها داخل “الجيش الحكومي” ذاته.
وفي هذا السياق، يرى مراقبون أن تعز تعيش حالة ازدواج خطير في وظيفة المؤسسة العسكرية، حيث تحوّلت بعض التشكيلات من قوة دفاعٍ وطني إلى سلطةٍ موازيةٍ تتصرف ككيان اقتصادي وسياسي مستقل، يفرض الجبايات ويقرر مصير المواطنين وفق الولاءات الحزبية والعائلية. وهذا الوضع، بحسب محللين، يهدد تماسك المدينة من الداخل، ويمنح خصومها – وعلى رأسهم الحوثيون – فرصةً لتوسيع دائرة نفوذهم واستثمار حالة الانقسام والفوضى لصالح مشروعهم.
وسط هذه الأجواء، تصاعدت المطالب الحقوقية في تعز بضرورة أن تكون زيارة الوزير نقطة تحوّل حقيقية لا مجرد استعراض سياسي. فقد دعا ناشطون وحقوقيون وزير الدفاع إلى كسر حاجز الصمت وفتح تحقيق شامل في انتهاكات محور تعز، مشددين على أن أي إصلاح عسكري لا يمكن أن يتحقق دون إعادة هيكلة شاملة للألوية الخاضعة لسيطرة حزب الإصلاح، والتي تحولت – وفق تعبيرهم – إلى "تشكيلات أسرية ومصلحية" تمارس السلطة خارج القانون، وتعمّق الانقسام داخل المؤسسة العسكرية، بما ينعكس سلباً على الأمن العام وجهود استكمال التحرير.
رسائل ميدانية
رغم الجدل الداخلي الذي أحاط بزيارة وزير الدفاع إلى تعز وما أثارته من تساؤلات حول دلالاتها السياسية والعسكرية، فإن الفريق الركن محسن الداعري حرص في كلمته وخطابه الميداني على توجيه رسائل متعددة المستويات، تتجاوز حدود المدينة لتصل إلى المشهد الوطني بأكمله. فقد أكد أن "معركة الخلاص قادمة"، في إشارة واضحة إلى أن القيادة العسكرية اليمنية، بدعم من التحالف العربي، ما تزال متمسكة بخيار الحسم العسكري ضد الميليشيات الحوثية بعد سنوات من الجمود الميداني والتعقيدات السياسية.
هذا التصريح، الذي جاء في وقتٍ تتصاعد فيه مؤشرات التصعيد على جبهات تعز والساحل الغربي، مثّل ردًّا عمليًا على الدعوات الأممية المتكررة لتمديد الهدنة التي يراها كثير من العسكريين "هدنةً ميتة" لا تردع الحوثيين عن خرقها، بل تمنحهم فرصة لإعادة التموضع وإعادة تسليح جبهاتهم. حديث الوزير عن "الجاهزية القتالية" لم يكن مجرد خطاب تعبوي، بل رسالة تحذيرية مزدوجة: للحوثيين من جهة، وللقوى السياسية والعسكرية الموالية للحكومة من جهة أخرى، بأن ساعة المواجهة قد تقترب وأن التهاون أو الانقسام الداخلي لن يكون مقبولًا بعد اليوم.
وفي مشهدٍ رمزيٍ عميق الدلالة، ألقى الوزير كلمته من أمام عرضٍ عسكري رمزي في شارع جمال بتعز، المدينة التي ظلت رمزًا للصمود والخذلان في آن واحد. فقد خاضت تعز أطول مواجهة مع الحوثيين، ودفعت ثمناً باهظاً من دماء أبنائها، فيما بقيت محاصرة ومحروقة بالانقسامات الداخلية. وهنا أراد الداعري أن يبعث برسالة إلى الداخل التعزي مفادها أن "الجيش الوطني لا يزال عمود الدولة وسيفها"، وأن الخلاص لن يتحقق إلا بوحدة الصف وتجاوز الولاءات الحزبية التي أنهكت الجبهة الداخلية أكثر مما أنهكها حصار الحوثيين.
كما حرص الوزير على الإشادة بأدوار أبناء تعز في مختلف الجبهات، معترفًا بتضحياتهم وبأنهم يشكّلون أحد الأعمدة القتالية الأبرز في مواجهة الحوثيين، سواء داخل المدينة أو في خطوط التماس الممتدة حتى الساحل الغربي ومأرب. وقد جاءت هذه الإشادة لتخفيف حدة التوتر الشعبي، في ظل الاتهامات الموجهة إلى قيادة المحور، ومحاولة ترميم الثقة المهتزة بين الشارع والقيادة العسكرية الرسمية.
الزيارة حملت أيضًا رسائل طمأنة وتحذير في آن واحد بحسب مراقبين، طمأنة للمجتمع المحلي بأن تعز ليست منسية في معادلة الحرب، وتحذير للقوى المسيطرة داخل المدينة بأن الجيش ليس أداة لتصفية الحسابات أو جباية الأموال، بل مؤسسة يفترض أن تعود إلى وظيفتها الأصلية في حماية الوطن والمواطن، لا في إرهابهم أو ابتزازهم تحت لافتة "التحرير".
رمزية الزيارة
يحمل حضور وزير الدفاع الفريق الركن محسن الداعري إلى تعز دلالاتٍ رمزية وسياسية متشابكة؛ فهي الزيارة الأولى لمسؤول عسكري رفيع بهذا المستوى منذ سنوات طويلة، في مدينة ظلت على مدى تسع سنوات عاصمةً للخذلان ومحوراً للصراع الداخلي أكثر من كونها ساحة مواجهة مفتوحة ضد الحوثيين. هذه الرمزية تضاعفت في ظل تصاعد الاحتجاجات الشعبية والاعتصامات المدنية داخل المدينة، التي تطالب بإنهاء حالة الانفلات الأمني، ومحاسبة المتورطين في جرائم الاغتيالات والنهب، وإنهاء ما يصفه الأهالي بـ"الوصاية العسكرية الفاسدة" المفروضة عليهم من داخل محور تعز نفسه.
ويرى مراقبون أن الزيارة لم تكن مجرد تحرك ميداني روتيني، بل محاولة لإعادة ترميم صورة المؤسسة العسكرية اليمنية التي تآكلت هيبتها في المحافظة نتيجة ممارسات بعض القيادات المحسوبة على حزب الإصلاح، والتي حولت المحور إلى سلطة فوق القانون، تمارس الجباية وتحتكر القرار الأمني والإداري تحت غطاء "الدعم العسكري". ومن هنا، الوزير الداعري بعد الزيارة وجد نفسه أمام اختبار مزدوج: استعادة ثقة الشارع التعزي الغاضب من جهة، وكسر نفوذ مراكز القوى العسكرية والسياسية المتغلغلة داخل المحور من جهة أخرى.
وتشير التحليلات إلى أن مرور موكب الوزير من أمام خيام المعتصمين في شارع جمال عبد الناصر، لم يكن مشهداً عابراً، بل رسالة رمزية ثقيلة المعنى. فهناك، يقف مواطنين للمطالبة بالقصاص من قتلة أبنائهم في مقدمتهم مديرة صندوق النظافة افتهان المشهري، حيث لا يزال المحرضين والمخططين من القيادات العسكرية حرة طليقة. هذا المشهد جسّد المفارقة الكبرى في تعز: مدينة ترفع شعار "تحرير الوطن" بينما لا تزال تبحث عن عدالة داخل حدودها المحررة.
رأى بعض النشطاء أن زيارة الوزير إلى تعز تمثّل فرصة لإعادة الانضباط وتصحيح المسار داخل المؤسسة العسكرية، حذّر آخرون من أن تجاهل المطالب الشعبية وتحويل الزيارة إلى مجرد عرض عسكري استعراضي سيعمّق الفجوة بين المواطنين والجيش، ويغذي مشاعر الإحباط وفقدان الثقة بالدولة. فتعز، كما علق الناشط الحقوقي محمد الكمالي الزيارة بالقول، "لا تحتاج إلى مزيدٍ من الخطابات أو العروض العسكرية، بل إلى قراراتٍ شجاعة تُعيد الاعتبار لمفهوم الجيش الوطني الذي يحمي الشعب لا يبطش به."
مطالبات حقوقية
ويخلص مراقبون إلى أن نجاح زيارة الداعري سيتوقف على ما إذا كان سيترجم وعوده الميدانية إلى قرارات عملية: بإعادة هيكلة المحور، وتفعيل المحاسبة العسكرية، وإحالة المتورطين في الانتهاكات إلى القضاء العسكري، وهو ما سيحدد ما إذا كانت زيارته ستُسجَّل كـ"منعطفٍ إصلاحي حقيقي" أم مجرد فقاعة ميدانية عابرة في سجل الزيارات البروتوكولية.
ووجّه الناشط الحقوقي عبدالخالق سيف رسالة علنية إلى وزير الدفاع عبر منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، رحّب فيها بقدوم الفريق الركن محسن الداعري إلى مدينة تعز، معتبرًا أن الزيارة تمثل "فرصة لاختبار النوايا الحقيقية للإصلاح الأمني ومحاسبة المتورطين في جرائم وانتهاكات سابقة".
وقال سيف إن مخيمات العدالة في تعز "تُسعدها هذه الزيارة"، معربًا عن أمله في أن يبدأ الوزير بملف المجرم فاروق فاضل، شقيق قائد المحور خالد فاضل، وتسليمه للعدالة، إضافة إلى ملاحقة "الأبناء الهاربين لرئيس أركان المحور عبدالعزيز المجيدي" المتهمين في قضايا قتل، مؤكدًا أن تنفيذ العدالة في هذه القضايا سيكون "المدخل الحقيقي لاستعادة ثقة المواطنين بالمؤسسة العسكرية".
ودعا سيف الوزير إلى معالجة أوضاع اللواء 170 دفاع جوي وتسليم المطلوبين في بقية الألوية والوحدات، وتحقيق العدالة في ملفات الانتهاكات ومصادرة الممتلكات الخاصة، مشددًا على ضرورة تسوية رواتب الجيش في تعز بما يساوي بقية المحافظات، وزيارة مخيمات العدالة والاستماع لقضايا أسر الشهداء والضحايا. وختم الناشط رسالته بالقول: "إذا فعلت ذلك، ستدخل قلب تعز من أوسع أبوابها، ومن أعمق أوجاعها".