"التجسس لإسرائيل".. شماعة الحوثي لتبرير اختطافات الخصوم وتصفيتهم
السياسية - Friday 24 October 2025 الساعة 10:37 pm
صنعاء، نيوزيمن، خاص:
في مشهدٍ يكشف عمق الارتباك الداخلي الذي تعيشه ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران، صعّدت الجماعة خلال الأيام الماضية من حملات الاعتقال والملاحقة بحق شخصيات اجتماعية وإعلامية وحتى قيادات من داخل صفوفها، تحت ذريعة "التجسس لصالح إسرائيل"، في خطوة يراها مراقبون محاولة للهروب من أزماتها المتفاقمة، وتصديرها على شكل معارك وهمية لتبرير القمع الداخلي وإعادة إحكام القبضة الأمنية على المجتمع.
فمنذ أن أُعلن عن مقتل عدد من القيادات العسكرية البارزة في صفوف الجماعة، وفي مقدمتهم محمد عبدالكريم الغماري، رئيس ما يُعرف بـ"هيئة الأركان العامة"، شهدت صنعاء ومناطق أخرى خاضعة للحوثيين موجة اعتقالات واسعة طالت قيادات عسكرية وأمنية ومدنيين، بعضهم من المقربين من زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي نفسه.
وبحسب مصادر أمنية مطلعة، فإن هذه الحملة نُفذت بتوجيهات مباشرة من زعيم الميليشيا، بعد أن اتهمت تلك القيادات بـ"التجسس لصالح الاستخبارات الإسرائيلية"، في سردية وصفتها المصادر بـ"الذرائعية" التي توظفها الجماعة لتصفية خصومها وتكميم الأفواه في الداخل.

حملة مسعورة
وفي أحدث سلسلة هذه الانتهاكات، اختطفت الميليشيا، الجمعة، الشيخ أحمد حمود شرهان – أحد مشايخ ووجهاء بني مطر – عقب مداهمة منزله في صنعاء، واقتادته إلى جهة مجهولة.
وأكدت مصادر قبلية أن الحادثة تأتي ضمن حملة منظمة لإخضاع المشايخ والوجهاء بالقوة، في مسعى لفرض الولاء المطلق للجماعة وبسط السيطرة على ما تبقى من البنى القبلية المستقلة، مشيرة إلى أن الحوثيين باتوا ينظرون لأي موقف محايد أو غير خاضع لتوجيهاتهم على أنه "تمرد سياسي". ولم تقتصر الاعتقالات على المناوئين أو المستقلين فحسب؛ إذ طالت حتى الموالين للحوثيين أنفسهم.
وأفادت مصادر محلية في صنعاء أن الجماعة أقدمت، الخميس، على اختطاف الصحفي أيوب التميمي – السكرتير الإعلامي للقيادي الحوثي سلطان السامعي، عضو ما يسمى بـ"المجلس السياسي الأعلى" – بعد نشره انتقادات حادة لخصوم السامعي عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ووفقًا للمصادر، تم الزج بالتميمي في أحد أقسام الشرطة التابعة للحوثيين في صنعاء، بعد تلقيه تهديدات متكررة إثر منشوراته التي تناول فيها قضايا فساد داخل مؤسسات الجماعة، لا سيما في مكتب الأشغال بمحافظة تعز.
الاعتقالات بحسب نشطاء حقوقيون ليست سوى انعكاسٍ لتفاقم الصراعات الداخلية بين أجنحة الميليشيا، والتي تصاعدت منذ استهداف ما يسمى بحكومة الحوثيين في أغسطس الماضي، حيث تحاول كل مجموعة تحميل الأخرى مسؤولية "الاختراق الأمني" الذي أدى إلى مقتل الغماري وقيادات أخرى.

إذلال وإخضاع
وفي سبيل إعادة تماسكها، لجأت الجماعة إلى استخدام خطاب "التجسس لصالح إسرائيل" كغطاء أيديولوجي لتبرير حملات القمع الداخلية، في وقتٍ لا تتوانى فيه عن اختطاف المدنيين والعسكريين والإعلاميين دون تهمة حقيقية أو إجراءات قانونية.
وبحسب تقارير حقوقية دولية، فإن ميليشيا الحوثي صعّدت منذ مطلع العام الجاري من انتهاكاتها ضد المواطنين، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية، ومداهمة المنازل، ونهب الممتلكات الخاصة، في إطار سياسة ممنهجة تهدف إلى إذلال المجتمع وإخضاعه لسلطة الجماعة عبر الخوف والترهيب.
ويؤكد مراقبون أن هذه الممارسات تكشف هشاشة الوضع الداخلي للجماعة، وتدل على محاولتها المستمرة لإسكات أي صوت قد يُهدد مركز نفوذها أو يفضح تناقضاتها، خصوصاً مع تصاعد الغضب الشعبي جراء تدهور الأوضاع المعيشية، وانهيار العملة، وغياب الخدمات في مناطق سيطرتها.
ويبدو أن ميليشيا الحوثي باتت تتعامل مع "التجسس لإسرائيل" كفزاعة سياسية جاهزة، تُستخدم كلما واجهت الجماعة أزمة داخلية أو صراعًا على النفوذ والموارد، لتغطي على إخفاقاتها وتعيد إنتاج صورة "العدو الخارجي" في خطابها الدعائي. لكن في المقابل، يرى مراقبون أن هذا النهج لن يطيل عمر سلطتها بقدر ما يعمّق عزلة الحوثيين داخليًا ودوليًا، ويؤكد أن الخطر الحقيقي على اليمنيين اليوم لم يعد يأتي من الخارج، بل من سلطة السلاح التي تحكمهم بالاتهام والاختطاف والتخويف.
زيف الشعارات
في الوقت الذي تواصل فيه ميليشيا الحوثي الإيرانية حملات الاعتقال والمداهمة بحق المواطنين في مناطق سيطرتها، تتصاعد داخل صنعاء أصوات نادرة لكتاب ومحللين سياسيين يعبّرون عن استيائهم من ازدواجية المعايير التي تتعامل بها الجماعة، خصوصًا في ما يتعلق باعتقال الموظفين اليمنيين العاملين في المنظمات الدولية، وتجاهل معاناتهم مقابل الإفراج السريع عن الأجانب المعتقلين.
الكاتب والسياسي محمد المقالح، وهو أحد أبرز الأصوات التي لا تزال داخل مناطق الحوثي رغم التضييق، أبدى استغرابه الشديد من مسارعة الجماعة والأمم المتحدة إلى إطلاق سراح الموظفين الأجانب الذين اعتُقلوا مؤخرًا، في حين لا يزال عشرات اليمنيين العاملين في المنظمات الإنسانية يقبعون في سجون الميليشيا منذ سنوات دون أي اهتمام أو تحرك جدي من المجتمع الدولي.
وقال المقالح في تغريدة نشرها على منصة "إكس" (تويتر سابقًا): "أنصح العاملين في المنظمات الإنسانية أن يكونوا أجانب، حتى إذا حصل شيء يكون هناك من يتابع أمرهم ويفرج عنهم جميعًا إذا سجنوا. أما أن يكونوا يمنيين، فالله حطهم الله شلهم."
تصريح المقالح يعكس حالة الإحباط واللاعدالة الإنسانية التي يعيشها اليمنيون العاملون في المجال الإغاثي والإنساني داخل مناطق سيطرة الحوثي، إذ باتت الأمم المتحدة، وفق ما يشير إليه، تتعامل بازدواجية واضحة بين موظفيها المحليين والأجانب.
من جانبه الصحفي خليل العمري شن هجومًا لاذعًا على من وصفهم بـ"المُزْرين" في سلطة الحوثي، في إشارة إلى الممارسات القمعية والإعلامية التي تسعى لتقديس القيادات وتحويل النقد إلى خيانة. وقال: "في أدبيات المُزْرين، إن كان لديهم أدب أو أدبيات، غادرت المصطلحات معانيها الأصلية إلى معانٍ مبتكرة تبرعمت في أطماع المغاور ثم أعشبت من هواجس الطيرمانات."
وأضاف بلهجة ناقدة لاذعة: "أصبح (الخائن) و(المرجف) هو من لا يصفّق ويطبّل لكبارهم، وأما من ينتقد أخطاءهم أو يشكو خطاياهم، فهو عميل وجاسوس ومرتزق ومأجور... وهكذا عندما يُختصر الوطن إلى (قرية) ويُختزل الشعب في (مشرف)، لا يتبقى لهذه المصطلحات علاقة بالوطن والشعب، بل بالموقف من القرية المقدسة والمشرف العظيم."
ما عبّر عنه العمري ليس مجرد تنديد لغوي، بل توصيف دقيق لـ حالة الاستبداد الفكري والسياسي التي رسختها الميليشيا الحوثية في مؤسسات الدولة والمجتمع. فالجماعة، وفق هذا التوصيف، تعمل على إعادة تعريف الوطنية والخيانة وفقًا لمعايير الولاء لها، لتتحول المعارضة إلى "تجسس"، والنقد إلى "ارتزاق"، والحياد إلى "خيانة".
وبحسب مراقبين سياسيين، فإن هذه الاعتقالات المتكررة، إلى جانب عمليات الإخفاء القسري ونهب الممتلكات، تعكس طبيعة المشروع الحوثي القائم على إخضاع المجتمع لا على تمثيله، وأن استمرار الأمم المتحدة في الصمت حيال هذه الانتهاكات يشكل تواطؤًا غير مباشر يُطيل من عمر معاناة اليمنيين ويمنح الجماعة غطاءً دوليًا لممارساتها القمعية.
>
