د. فاروق ثابت

د. فاروق ثابت

تابعنى على

الناقد عدو الجماعة: تدمير الدولة في تعز !

منذ 3 ساعات و 59 دقيقة

جاء مقتل المرأة الملهمة افتهان المشهري كحدث مفصلي أعاد تشكيل المزاج العام في مدينة تعز. لم تكن الحادثة مجرد جريمة جنائية، بل مثلت صدمة أخلاقية هزت الضمير الجمعي وأيقظت في النفوس شعورا متراكما بالظلم.

عقب الجريمة، تدفّق المئات من المواطنين إلى ساحة العدالة، كل يحمل مظلمته: من قُتل قريبه خارج القانون، ومن نُهب منزله أو سُلبت أملاكه، ومن فقد الأمان في مدينته. تحولت الساحة إلى مرآة نازفة بوجع المدينة، ورسالة احتجاج ضد سلطة محلية يهيمن عليها الحزب الواحد، ويسيطر فيها على مفاصل الأمن والجيش والاستخبارات والسلطة المحلية.

 من الإحتجاج إلى الإتهام : انغلاق موقف الجماعة

بدلا من أن يتعامل الحزب مع الإحتجاجات باعتبارها دعوة لمحاسبة المتورطين وإنصاف الضحايا، انحاز إلى خطاب التبرير والهجوم.

أطلقت تصريحات وبيانات تتهم المعتصمين بالتآمر، وتربط أي انتقاد للحزب بـ“استهداف المقاومة” أو “الانخراط في مشاريع معادية”.

هذه الاستجابة الدفاعية تعكس أزمة عميقة في الوعي السياسي، إذ لم ينظر إلى المظالم كقضية عدالة، بل كخطر على صورة التنظيم ومكانته وهذا الامر يفاقم من الكارثة ويؤسس لمزيد من الإنقسام.

قدم الحزب بذلك صورة مغلقة للسلطة، حيث يصبح الدفاع عن الذات أهم من الدفاع عن الحق، ويُختزل الأمن في الولاء، والعدالة في الإنتماء.

الجذر الأيديولوجي : من فكر الجماعة إلى سلوك الحزب

يستمد حزب الإصلاح كثيرا من تصوّراته من فكر الإخوان المسلمين الكلاسيكي القائم على الدمج بين العقيدة والتنظيم.

في هذه البنية الفكرية، تُقدَّم الجماعة كحاملة للحقيقة وممثلة للدين، ومن ثمّ يصبح انتقادها مساسا بالمقدّس.

يتحول الفعل السياسي إلى واجب شرعي، والخطأ التنظيمي إلى “اجتهاد”، وتُستخدم مفردات دينية لتبرير الانتهاكات أو التقصير.

وهكذا تتكرس عقيدة العصمة الجماعية التي تمنع المراجعة الذاتية وتقصي النقد مهما كان موضوعيا أو نزيها.

ذهنية الشك والتآمر كآلية دفاعية

تقوم ذهنية الحزب على افتراض دائم بأنّه مستهدف من خصوم الدين والمشروع الوطني، وأن كل انتقاد هو جزء من حملة تآمرية.

قد تحصن هذه الفكرة الحزب نفسيا ضد المساءلة، لكنها في الوقت ذاته تعزله عن الواقع، إذ تتحوّل الأخطاء إلى مؤامرات، والضحايا إلى أدوات، والمحتجون إلى خونة.

بهذا الشكل تُلغى إمكانية الإصلاح الذاتي للتنظيم، لأنّ النقد يُترجم فورا إلى عداء، ويُستبدل البحث عن الحقيقة بالبحث عن المتّهم.

هذه الذهنية جعلت الحزب فاقدا لحس المراجعة، ودفعت بعض كوادره إلى تبرير الجرائم بدافع “الغيرة على التنظيم”، في حين كان يفترض بهم أن ينتصروا لقيم العدالة، تلك الكلمة المدونة في أدبيات التنظيم على أساس أنها من ركائز نشأته.

تعز بين القبضة والسيطرة

تُظهر تعز اليوم نموذجا كلاسيكيا لسيطرة الحزب الواحد على الدولة.

الجيش والأمن والسلطة المحلية والمؤسسات التعليمية والصحية تعمل ضمن منظومة ولاء متداخلة، حيث تختزل الكفاءة في الإنتماء.

هذه السيطرة أنتجت خلطا بين الدولة والحزب، بحيث فقدت المؤسسات استقلالها وفاعليتها، وصار النقد خروجا على “الصف الوطني”، حتى وإن كان دفاعا عن مواطن مكلوم أو مظلمة واضحة.

نتيجة ذلك، تآكلت الثقة بين المواطن والسلطة، وانكمشت مساحة الحرية في المدينة التي تعد منارة للوعي والثقافة المدنية في اليمن.

أثر الذهنية المغلقة على المجتمع

حين تصبح العدالة مشروطة بالولاء الحزبي، يفقد المجتمع توازنه الأخلاقي.

ينشأ جيل يرى أن النجاة تكمن في الصمت، وأن الحقيقة لا تُقال إلا وفق ميزان التنظيم.

بهذا الشكل، يتحوّل الخوف إلى ثقافة، والسكوت إلى سياسة، ويتآكل الضمير العام.

وتبدأ المدينة، التي طالما كانت ومازالت منبعا للمثقفين ووالاكاديميين والعلماء والسياسيين والناشطين،  بالإنكماش داخل جدران الخوف والريبة.

وهذا ما كان حاصلا حتى ما قبل مقتل أفتهان المشهري.

يجدر القول أن أخطر ما يواجه تعز اليوم ليس السلاح والمسلحون في الشارع العام ، بل العطب في الوعي الذي يبرر او يدافع او يغطي او يهون من الجريمة بحجة حماية المشروع، من قبل من يفترض أنهم يحمون المواطن وأمنه وسلامته وحقوقه، انطلاقا من قول الرسول الكريم: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”.

 خطر الموقف على حاضر المجتمع ومستقبل الجماعة

استمرار هذه الذهنية يحمل خطرا مزدوجا: على المجتمع من جهة، وعلى الجماعة ذاتها من جهة أخرى.

ففي المستوى الإجتماعي، يؤدي هذا النمط من التفكير إلى تفكيك النسيج المدني وتعميق الإنقسام الإجتماعي والسياسي، حيث يتشكل وعي جمعي يرى في التنظيم سلطة فوق القانون، وفي العدالة ترفا مؤجّلا.

وبالتالي يتزايد الشعور بالغبن، وتتصاعد الرغبة في الإنتقام، ما يفتح الباب أمام مزيد من الفوضى الإجتماعية يصعب ضبطها مستقبلا.

أما على مستوى الجماعة، فإن الإنغلاق الفكري ورفض النقد سيقودها إلى عزلة سياسية وانكماش شعبي متسارع.

فالجماعات التي لا تتعلم من أخطائها تُستنزف من داخلها، وتتحول من مشروع سياسي إصلاحي إلى عبءٍ على نفسها وعلى المجتمع.

وحين تضع الجماعة بقاءها فوق الحقيقة، فإنها تبدأ فعليا مرحلة الأفول التاريخي، مهما بدت قوية في اللحظة الراهنة.

نحو مراجعة فكرية وأخلاقية

المخرج الممكن أمام حزب التجمع اليمني للإصلاح ليس في الدفاع الأعمى عن الجريمة والمجرم، بل في مراجعة الذات.

عليه أن يفكّ الإرتباط بين الدين والسياسة، وأن يدرك أن القداسة لا تُمنح لتنظيم بشكل مطلق، بل تُستمد من سلوك عادل ومسؤول.

فالمجتمع لا يُصلحه شعار، بل عدالة تطبّق، وإنصاف يتحقق.

النقد ليس تآمرا، والمساءلة ليست خصومة، والإنكار لا يصنع استقرارا.

وإذا لم يتدارك الحزب نفسه، فإن خسارته الكبرى لن تكون سياسية، بل فكرية وأخلاقية، لأن المجتمعات التي تتجاوزها أحزابها لا تعود تلك الأحزاب بعدها أكثر من ذكرى في التاريخ.

إشارة مهمة: 

مأساة تعز اليوم تتجاوز حادثة المشهري أو مظلمة فرد، لتصبح أزمة في فلسفة الحكم ومفهوم العدالة.

حين تغلق الأبواب أمام النقد، تُفتح النوافذ أمام الفوضى.

وحين يتحوّل الولاء إلى معيار للحقيقة، تضيع الحقيقة نفسها.

وعلى حزب الإصلاح أن يدرك أن الشرعية الحقيقية لا تستمد من السيطرة، بل من القدرة على الإصغاء، والمراجعة، والإعتراف بالخطأ.

ما لم يتحقق ذلك، سيظل حاضر المجتمع مهددا بالتآكل، ومستقبل الحزب منحدرا صوب الزوال.

الخطر على الشرعية

خطر عدم الإعتراف بالخطأ والتمادي معه إزاء استمرار الدفاع الأيديولوجي وشيطنة وملاحقة الناقد، في مدن حساسة مثل تعز ، يتجاوز البعد المحلي ليصبح عاملا يهدد تماسك الدولة الشرعية وأداء المجلس الرئاسي ككل. فعندما تستبدل المساءلة بالقمع، وتحول المؤسسات العامة إلى امتداد للولاءات الحزبية، تفقد الدولة قدرتها على تقديم الخدمات، وتضعف ثقة المواطنين بالمؤسسات المركزية. هذا يخلق فراغا شرعيا قد يتطور إلى نزاع يخرج عن الإطار المتوقع له، مما قد يُضعف قدرة الحكومة او المجلس الرئاسي على وجه خاص على توحيد القرار الوطني، ويمزق الرؤية المشتركة التي بني من أجلها، خصوصا في هذه المدينة المحورية. كما أن استمرار التجاوزات المحلية ودمج الأمن بالمصالح الحزبية يضرب مصداقية المجلس في إدارة الملف الأمني والاقتصادي، ويعيق أداؤه، ويحد من تواصله مع مسار الإصلاحات في هذه المحافظة المهمة، وهو أمر واقع لا يمكن تجاهله.

ماذا يجب فعله

أولوية الدولة والمجلس الرئاسي هي إعادة وصل الحكم بالمساءلة والحماية المدنية. لا بد من استعادة استقلالية مؤسسات الأمن والنيابة والسلطة المحلية عن أي ولاءات حزبية، وإطلاق آليات تحقيق شفافة ومحايدة في القضايا المثيرة للغضب الشعبي، مع تأمين حماية للمشتكين والشهود. على المستوى السياسي، يتعين على المجلس أن يخاطب المواطنين مباشرة بوجوب تطبيق القانون بعدل على الجميع، وأن يفتح قنوات حوار وطني محايدة تضم ممثلين عن المجتمع المدني والمحامين والنواب المستقلين لإدارة ملفات الفساد والانتهاكات بعيدا عن التجاذبات الحزبية. وحتى لا يتفاقم الأمر أو يخرج عن السيطرة في مدينة يحاصرها العدو الحوثي من جهات مختلفة، و من الضروري أن يعمل المجلس مع شركائه الإقليميين والدوليين على دعم برامج إصلاح مؤسسي حقيقية تعيد الثقة في الدولة، عبر ضمان المحاسبة والشفافية، وإصلاح أجهزة الأمن بحيث تؤدي وظيفتها الوطنية لا الحزبية. وتنفيذ هذه الخطوات ليس رفاهية بل شرط أساسي للحفاظ على وحدة الدولة، ولإبقاء المجلس الرئاسي فاعلا في مواجهة مخاطر الاستقطاب والتفكك.

خصوصية تعز وأهمية استعادة التوازن فيها

تبقى مدينة تعز القلب المدني والسياسي لليمن، وحاضنة الوعي الوطني منذ مطلع القرن العشرين. منها انطلقت الحركات الطلابية والثقافية والنقابية التي أسست لنهضة الفكر الجمهوري، وفيها تبلور مفهوم الدولة المدنية الحديثة. لذلك فإن أي اختلال أمني أو انحراف إداري في تعز لا يبقى محصورا داخل حدودها، بل يمتد أثره إلى المشهد الوطني بأكمله. فاستمرار حالة الفوضى وتغليب الولاءات الحزبية على القيم الوطنية يهدد بتقويض آخر مركز مدني متماسك في اليمن. كما أن فقدان الثقة في مؤسسات تعز يعني ضرب نموذج المدينة التي كانت مرجعية للشرعية والمقاومة، وملاذا للقوى الديمقراطية. من هنا، فإن إصلاح الوضع في تعز واستعادة التوازن المؤسسي فيها ليس مطلبا محليا فحسب، بل ضرورة استراتيجية لإعادة بناء الدولة اليمنية وترميم صورتها أمام الداخل والخارج على حد سواء.

وبذلك يتضح أن استعادة مفهوم الدولة في تعز ليست مهمة إدارية أو سياسية فقط، بل هي رهان وطني على بقاء فكرة الجمهورية ذاتها. فكل تأخير في إصلاح الخلل داخل هذه المدينة يضاعف من هشاشة الدولة، ويعمّق من عزلة القوى السياسية، ويمهد الطريق لعودة أنماط الحكم إلى ما قبل الدولة. لذا فإن إنقاذ تعز اليوم هو إنقاذ لجوهر الدولة اليمنية، وصون لآخر معاقل الوعي الجمهوري والمدني في البلاد.