الحوثيون يختارون السلاح بدل الطعام.. التصعيد ضد السعودية في مواجهة أزمة الجوع
السياسية - منذ ساعة و 39 دقيقة
صنعاء، نيوزيمن، خاص:
في خضم أزمة طاحنة غير مسبوقة يعيشها اليمنيون داخل مناطق سيطرة جماعة الحوثي، تتكثف مظاهر الانهيار الاقتصادي والاجتماعي بشكل مقلق. فبعد أن توقفت المرتبات الحكومية منذ أكثر من ثماني سنوات، وانكمشت موارد الدخل إلى حدودها الدنيا، يعيش ملايين الموظفين المدنيين والعسكريين أوضاعًا مأساوية، بينما تتواصل سياسات الجباية والإتاوات التي تفرضها الجماعة على المواطنين والتجار تحت مسميات متعددة، منها "دعم المجهود الحربي"، و"مال الزكاة الخاصة"، و"الرسوم الجمركية الإضافية".
وفي ظل تراجع المساعدات الإنسانية الدولية إلى أدنى مستوياتها بسبب طرد المنظمات واعتقال موظفيها، وجد السكان أنفسهم أمام مشهد معيشي قاسٍ تغذّيه جماعة ترفض الاعتراف بأزمتها الداخلية، وتبحث عن مخرج خارجي يخفف الضغط الشعبي المتصاعد ضدها.
وبدلاً من مواجهة جذور الأزمة المتمثلة في سوء الإدارة والفساد والاحتكار الاقتصادي، اختارت الجماعة تحويل الأنظار نحو الخارج عبر افتعال أزمة سياسية وعسكرية جديدة مع المملكة العربية السعودية، في محاولة للهروب من المساءلة الشعبية ومن غضب الناس المتنامي. فبدلاً من أن تُظهر مسؤولية سياسية تجاه شعبٍ يقترب من المجاعة، لجأت إلى خطاب التهديد والتصعيد، معتبرةً أن "التوتر مع السعودية" يمكن أن يعيد إليها مكانتها الإقليمية المهددة ويمنحها أوراق ضغط جديدة على طاولة التفاوض.
ويأتي ذلك في وقت كانت فيه سلطنة عُمان تُكثّف جهود الوساطة لإحياء "خريطة طريق السلام" المتعثرة، في محاولة لتجنيب اليمن مرحلة جديدة من التصعيد العسكري. لكن الحوثيين واجهوا مفترق طرق حاسمًا: إما السير في طريق السلام الذي يتطلب تنازلات وضمانات اقتصادية وإنسانية، أو طريق المواجهة الذي يُبقي على حالة العسكرة والاستنفار الداخلي ويمنحهم مبررًا لتأجيل الاستحقاقات الشعبية.
وقد اختاروا الطريق الثاني، رافضين مواجهة الواقع الداخلي الذي يتهدد أكثر من 12 مليون شخص في مناطق سيطرتهم بخطر الجوع والانهيار الكامل. وهكذا، تحوّلت الجماعة من كيان يعاني من ضغوط داخلية خانقة إلى طرف يُصدر أزماته نحو الخارج، مستخدمة التصعيد كسلاح سياسي لإعادة فرض نفسها في معادلة المنطقة وكأنها لاعب لا يمكن تجاوزه في أي تسوية مستقبلية.
السلام المتعثر وخيار التصعيد
جاءت جهود سلطنة عُمان في لحظة دقيقة، محاولةً إنعاش خريطة طريق السلام المجمّدة بين الحكومة اليمنية وجماعة الحوثي منذ أواخر عام 2023، بعد أن بدت ملامح الانفراج تتلاشى إثر فشل التفاهمات السعودية – العُمانية التي كانت تُعوّل عليها الأمم المتحدة لتخفيف الأزمة الإنسانية وفتح مسار سياسي جديد.
هدفت الوساطة العُمانية إلى كسر عزلة الحوثيين المتفاقمة ومنحهم فرصة للاندماج في العملية السياسية مقابل التزامات إنسانية واقتصادية واضحة، لكن الجماعة – التي اعتادت توظيف الوقت لصالحها – تعاملت مع تلك الجهود ببرود وازدواجية، متذرعة بمطالب اقتصادية شكلية تخفي وراءها رفضًا ضمنيًا لأي مسار سلام قد يقيّد نفوذها العسكري أو المالي.
ومع تزايد مؤشرات التعثّر، بدا أن الحوثيين، بدعم وتشجيع إيراني غير معلن، قرروا الانسحاب من مسار التهدئة والاتجاه نحو خيار أكثر انسجامًا مع طبيعتهم العسكرية، وهو التصعيد ضد السعودية. فقد رأت الجماعة في العودة إلى لغة التهديد والمواجهة فرصة لإعادة التموضع إقليميًا، وإحياء سردية "المقاومة" التي فقدت بريقها بعد توقف الهجمات في البحر الأحمر، إلى جانب صرف الأنظار عن الأزمة الاقتصادية الخانقة في مناطق سيطرتها.
بالنسبة لهم، كان التصعيد أقصر الطرق وأقلها كلفة، مقارنة بمواجهة انفجار اجتماعي قد يهدد بنيان سلطتهم في صنعاء وصعدة والحديدة. وهكذا، وجدت الجماعة نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: إحياء خريطة الطريق بما تحمله من التزامات ومسؤوليات تجاه الشعب، أو مواجهة الانهيار الداخلي، فاختارت – كعادتها – الهروب إلى الأمام عبر التصعيد.

تغذية الصراع الداخلي
ومع تفاقم الانهيار الاقتصادي وتوقّف صرف المرتبات والمساعدات الإنسانية، وجدت جماعة الحوثي نفسها عاجزة عن إدارة مناطق سيطرتها سياسيًا وخدميًا، فلجأت إلى استراتيجية "تفريغ الغضب إلى الداخل". بدأ ذلك عبر تغذية الصراعات القبلية وتوسيع دوائر النزاع المحلي بين القبائل والعشائر، مستغلةً الانقسامات التاريخية لتفتيت أي حراك اجتماعي محتمل ضدها. فكلما اشتدت الأزمات المعيشية وتزايد السخط الشعبي، أعادت الجماعة إنتاج الفوضى الأمنية كوسيلة لإشغال المجتمع بمواجهات داخلية تستهلك غضبه وتُبعد الأنظار عن فشلها في تلبية أبسط احتياجات الناس.
لكن هذا التصعيد الداخلي لم يكن سوى وجهٍ آخر لتكتيك خارجي أوسع. فعندما ضاقت بها الأزمات، نقلت الجماعة المعركة إلى البحر الأحمر ومضيق باب المندب، ملوّحةً بالتصعيد العسكري ضد السعودية والمجتمع الدولي كورقة ضغط جديدة. وبدلاً من الانخراط في تسوية سياسية أو مراجعة سياساتها الاقتصادية الكارثية، استثمرت "خطاب الحرب" لتسويق نفسها كقوة إقليمية تمتلك أوراق تهديد مؤثرة في أمن الطاقة والملاحة الدولية.
ويرى محللون أن التهديدات الحوثية الأخيرة ضد السعودية لا تنبع من موقف دفاعي أو مبدئي كما تزعم الجماعة، بل تأتي في سياق مساومة سياسية مكشوفة تهدف إلى انتزاع مكاسب اقتصادية وسياسية، وتثبيت موقعها كطرف لا يمكن تجاوزه في أي تسوية قادمة. وبهذا، تحاول الجماعة تحويل أزماتها الداخلية إلى أوراق تفاوض خارجية، مستخدمة معاناة اليمنيين وقوتهم اليومي كوقودٍ لاستمرار مشروعها العسكري والسياسي.
خطاب التهديد و"الورقة السعودية"
في خضم التصعيد المتواصل، أعلن القيادي الحوثي علي العماد، عضو المكتب السياسي للجماعة، أن الحوثيين في حالة حرب مع السعودية، زاعمًا امتلاك جماعته أدلة على شبكة تجسس يديرها التحالف السعودي بالتنسيق مع إسرائيل والولايات المتحدة. هذا التصريح لم يكن معزولًا عن السياق الإقليمي، بل جاء امتدادًا لخطاب تهديدي تتبناه الجماعة منذ أشهر، في محاولة لإعادة التموضع كقوة مؤثرة تتجاوز حدود اليمن إلى الإقليم بأكمله.
ويُنظر إلى هذا الخطاب كجزء من استراتيجية "الابتزاز السياسي" التي توظّفها الجماعة كلما اشتدت أزماتها الداخلية، إذ تعمد إلى رفع سقف التهديدات ضد السعودية والغرب لتثبيت حضورها في مشهد إقليمي متحوّل، مستغلة الانشغال الدولي بملفات كغزة والبحر الأحمر. فبينما يعاني ملايين اليمنيين من الجوع والفقر، تحاول الجماعة تحويل الأنظار إلى "عدو خارجي" لتبرير فشلها في إدارة مؤسسات الدولة ومفاقمة الأوضاع المعيشية في مناطق سيطرتها.
ويرى مراقبون أن "الورقة السعودية" باتت بالنسبة للحوثيين وسيلة ضغط متعددة الأوجه: فهي تتيح لهم حشد الأنصار داخليًا بشعار "العدوان الخارجي"، وتمنحهم في الوقت نفسه مساحة للمساومة في أي حوار إقليمي أو وساطة دولية قادمة. ومع ذلك، فإن استخدام التصعيد كورقة سياسية يحمل في طيّاته مخاطر كبيرة، خاصة مع بروز مؤشرات على نفاد الصبر السعودي تجاه ما تعتبره "مناورة متكررة" تعيق فرص السلام وتُبقي المنطقة على حافة الانفجار.
انعكاسات التصعيد
التحوّل الحوثي نحو خيار التصعيد الخارجي بدلاً من مواجهة أزماته الداخلية ينذر بعواقب متعددة المستويات. فعلى الصعيد الأمني، يُعدّ هذا التوجه مغامرة محفوفة بالمخاطر، إذ يفتح الباب أمام احتمالات ردود عسكرية من قوى إقليمية كالسعودية أو حتى إسرائيل، في حال تمادت الجماعة في تهديد الملاحة أو تنفيذ هجمات عابرة للحدود. هذه التطورات قد تعيد إشعال جبهات الحرب التي هدأت نسبيًا منذ اتفاق الهدنة، لتضع البلاد مجددًا أمام دوامة عنف مفتوحة.
أما داخليًا، فإن استمرار الانهيار الاقتصادي وتوقّف المساعدات الدولية ينذران بكارثة إنسانية غير مسبوقة، إذ يواجه أكثر من 12 مليون شخص في مناطق سيطرة الحوثيين خطر الجوع وسوء التغذية، في وقت تبدو فيه سلطات الجماعة عاجزة عن توفير الرواتب والخدمات الأساسية. وفي ظل غياب أي رؤية اقتصادية أو إدارية حقيقية، تتحول سياسة التصعيد إلى وسيلة للهروب من المساءلة الداخلية عبر خلق عدو خارجي يشغل الرأي العام عن تفاقم الأوضاع المعيشية.
إقليميًا ودوليًا، تسهم هذه الاستراتيجية في تحويل الحوثيين من فاعل محلي يسعى إلى تثبيت سلطته داخل اليمن إلى عبء أمني إقليمي، يهدد خطوط التجارة الدولية وأمن الطاقة في البحر الأحمر وباب المندب. ومع كل تصعيد جديد، تتآكل فرص إدماج الجماعة في أي تسوية سياسية مستقبلية، وتتعزز النظرة إليها كذراع إيرانية خارجة عن الإجماع الدولي، ما قد يفاقم عزلتها السياسية ويحدّ من قدرتها على التفاوض مستقبلًا.
التصعيد بديل عن الانهيار
في مواجهة الانسداد الداخلي وتفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية، اختار الحوثيون الهروب إلى الأمام عبر التصعيد العسكري بدل الانخراط في معالجة التحديات الداخلية. بدا أن الجماعة ترى في المواجهة الخارجية وسيلة لتأجيل الانفجار الشعبي، متكئة على شعارات "المقاومة" والتحالفات الإقليمية لتغطية العجز الداخلي. لكن هذا الخيار، وإن بدا مؤقتًا أقل كلفة من مواجهة غضب الشارع، فإنه يحمل في جوهره بذور الانهيار.
فالتصعيد العسكري لا يوفر حلولًا للأزمات البنيوية التي تعصف بمناطق سيطرة الجماعة، بل يعمّق العزلة السياسية والاقتصادية ويفاقم معاناة المواطنين الذين يعيشون أصلاً على حافة الجوع. ومع كل تهديد يطلقه الحوثيون ضد السعودية أو الملاحة الدولية، تتقلص فرص السلام وتتسع دائرة المخاطر، ما يفتح الباب أمام ضربات استباقية محتملة ويقوّض أي أمل في استقرار قريب.
وفي نهاية المطاف، يبدو أن الجماعة التي رفعت شعار "الكرامة والسيادة" وجدت نفسها محاصَرة بواقع الانهيار، تلجأ إلى فوضى السلاح لتأجيل لحظة الحساب. غير أن الثمن لا تدفعه الجماعة وحدها، بل يدفعه اليمن كله، حين تتحول معاناة شعب بأكمله إلى ورقة تفاوض ومزايدة سياسية، بدلاً من أن تكون دافعًا لبناء دولة قادرة على الحياة والسلام.
>
